صدمة لم يتلوها أي رعب
مع حلول يوم الجمعة الماضي أعلن النظام السوري الحرب الفعلية على شعبه وقتل على الأقل مئة متظاهراً في ذلك اليوم. وخلال هذا الأسبوع وقعت مناطق سورية عدة تحت وطأة الحصار. الدبابات السورية التي لم تقرب صوب الجولان المحتلة منذ عام 1973 نشطت الآن وتحركت لتدخل درعا عروس الجنوب, فأغلقت الطرق والشوارع فيها وقطعت المياه والكهرباء والاتصالات. ثمة تقارير عن نقص في الغذاء في درعا وهيمنة الذعر العام, وجثث ملقاة في الشوارع تتعفن على مهلها. وفي ضاحية “دوما” ينتشر القناصون ويطلقون الناس على المشاة, أما بانياس الساحلية فتحاصرها الدبابات, بينما أصبحت”مضايا” وهي بلدة جبلية على الحدود اللبنانية, بلدة محتلة. لا بد أن النظام يتمنى أن يوقف تهريب الأسلحة عبر الحدود أو أنه يتمنى لو يوقف نزوح السوريين وهربهم عبر منافذ التهريب, فلقد عبر الآلاف من سوريا إلى لبنان خلال الأيام الأخيرة ولقد اعتُقِل خمسمئة شخصاً على الأقل وأُودِعوا غرف التعذيب السورية.
يجب أن نلاحظ هنا أن العنف هائل وواسع لكنه أيضاً يُطَبَّق بطريقة تكتيكية, إذ يهدف التصعيد المفاجىء إلى إحداث صدمة عند الشعب ودفعه للانصياع, لكن الذخيرة الحية لم تُستَخدَم في كل مكان ولقد حاولت قوى “الأمن” ألا تقتل المتظاهرين الأكراد في الشمال الشرقي لخوفها من أن يطلق هذا شرارة عصيان مسلح. والمظاهرات التي حصلت في قلب دمشق تم تفريقها بالعصي والغاز المسيل للدموع عوضاً عن إطلاق الرصاص الحي. يبدو أن النظام لا يريد أن يقتل أبناء رجال الأعمال المهمين في دمشق, لكن إلى متى سيبقى النظام على موقفه هذا !
وإلى جانب العنف نسمع القصص السخيفة الهزيلة. القوى الخارجية (عبد الحليم خدام, السعودية, المغتربون السوريون) تسعى ولا بد إلى الاستفادة من هذه الفوضى وربما في بعض الحالات قامت بإدخال بعض الأسلحة. لكن يبقى أكثرها غرابة هو قصة أن البلد تواجه عصياناً مسلحاً وأن الجيش دخل إلى درعا للقضاء على عصابات سلفية, ويضاهيها في الغرابة قصة الاكتشاف المزعوم لحبوب الهلوسة ضمن أكياس طُبِع على كل منها شعار قناة “الجزيرة” (هل هم أغبياء إلى هذه الدرجة أم يعتقدون أن البقية أغبياء؟)
إن الشعارات التي يرددها المتظاهرون في الشوارع تطالب بالحرية والوحدة الوطنية, وليس بدولة سنية ولكن يلعب النظام السوري نفس حيلة النظام البحريني الذي زعم أن الانتفاضة في البحرين هي حبكة شيعية, والآن نرى النظام السوري ومناصريه يلجأون إلى مثل هذه الاتهامات الغبية المتعصبة والمقيتة ضد السُنة. ونراهم لغبائهم يعرضون مقاطع مصورة من المتظاهرين يرددون (الله أكبر) أو بعض الشيوخ الوهابيين يسبون النظام, ويستخدمون هذه المقاطع كدليل على أن الانتفاضة هذه انتفاضة سلفية وأنها تهدد الأقليات. ما تعجزهذه النظرية عن تفسيره أو أخذه بالحسبان هو المثقفون العلويون الذين يدعمون الانتفاضة, أو المتظاهرون المسيحييون الذين ماتوا بالرصاص في حمص, أو التظاهرات في بلدة السَلمية ذات المذهب الاسماعيلي. هل أصبح العلويون سلفيين فجأة؟ هل المسيحيون سلفيون أيضاً هم والاسماعيليون؟؟ ثمة دعوات للجهاد في بعض المناطق السنية لكنها ليست أبداً دعوة إلى قتل الأقليات وليست دعوة إلى السلفية. ولنفترض أن بعض المتظاهرين سلفيون, ألا يحق لرجل ذي لحية أن يكون له كرامة مثله مثل حليق الذقن ؟
لأسباب عديدة, ولو كان النظام حقاً يهتم لسوريا فعليه أن يوقف العنف فوراً وأن يعلن الانتقال السلمي للسلطة. سوف لن يجد النظام بداً من هذا لو أن المزيد والمزيد من الجنود اقتادوا بما فعله زملاؤهم في درعا عندما وقفوا مع الشعب ورفضوا أن يقتلوا أبناء بلدهم الأبرياء, ولو أن المزيد من البعثيين استقالوا مثل رفاقهم الذين استقالوا من الحزب. ما زلنا بعون الله بعيدين عن أي حرب طائفية ويبدو أن بعض الضباط أو الأشخاص البارزين في المجتمع العلوي يتمتعون بصفاء الرؤية وبالحكمة. ورغم دمويتها فإن الأحداث الجارية قد تؤدي إلى نتيجة إيجابية.
من المستحيل أن تعود الأمور إلى سابق عهدها. ومن الواضح أن محاولة النظام بإحداث الصدمة والترهيب لم تفلح, ولم يتمكن من ترويع بانياس وحمص وتلكلخ ودير الزور والقامشلي وعامودا وحماة وإدلب ومعرة النعمان. كما خرجت مظاهرات في ضواحي دمشق مثل الكسوة والتل وحرستا, وبعد أن تظاهر الآلاف في منطقة الميدان لا شك أن الانتفاضة وصلت أخيراً إلى قلب العاصمة السورية.
كانت الأزمة ستحصل لا محالة لكن سوء حسابات النظام أدى إلى تسريع وقوعها. لو أن بشار يتمتع بمرونة أبيه الجيوستراتيجية, ولو أنه كان قومياً عربياً كما يدّعي لكان أدرك عندما وصلت الثورة إلى مصر أن العرب قد ابتدأوا عملية تغيير لا مناص منها. كان بإمكان بشار أن يستفيد من شعبيته الأكيدة لتسهيل عملية التغيير وحتماً كان التاريخ سيسجل اسمه كرئيس دولة سوري عظيم. ولكن عوضاً عن هذا أدلى في إحدى المقابلات أن السوريين سيكونون جاهزين للتغيير بعد جيل كامل, وألقى أمام البرلمان كلمة مليئة بضحكاته السخيفة المثيرة للأعصاب, وتظاهر بأنه إصلاحي بينما كانت بلطجيته تقتل الأبرياء.
عندما اعتقل النظام طلاب المدارس سبّب المظاهرات في درعا, وعندما قام باعتقال المتظاهرين سبّب في المظاهرات في كل سوريا. والذين كانوا في البداية يطالبون بالإصلاحات, يطالبون الآن بإسقاط النظام.
وما يزال البعض يدورون في حلقات عائلة الأسد: هل صحيح أن بشار لطيف ولكنه ضعيف لا يملك كلمة أمام أخيه الشرير ماهر؟ هل صحيح أن ميليشيات رفعت الأسد هي التي ترعب الناس؟ لقد بدأت الناس تملّ من هذا المسلسل ولم يعودوا قادرين على إخفاء شكوكهم. لم يعد يعنيهم أي فرد من أفراد العصابة هو الألطف. هي ذات العصابة, عصابة مجرمين يقابلون التظاهر السلمي بالدم والخداع. لقد غسلت دماء الشهداء المسفوكة كل الأوهام وكل الأكاذيب, وتم دحض فكرة أن النظام قادرعلى التغيير والإصلاح, ولم يبقَ أمام العيون سوى آليات القوة الفجة بقسوتها العارية الفاضحة.
Leave a Reply